ترجمة المؤلف رحمه الله تعالى :
هو القاسم بن فِيرُّه – بكسر الفاء ، بعدها ياء مثناة تحتية ساكنة ، ثم راء
مشددة مضمومة ، بعدها هاء ؛ ومعناه بلغة عجم الأندلس : الحديد – ابن خلف بن
أحمد أبو القاسم ، وأبو محمد الشاطبي الرعيني ، الضرير ، وليُّ الله الإمام
العلاَّمة ، أحد الأعلام الكبار المشتهرين في الأقطار .
ولد في آخر سنة /538/هجرية ، بشاطبة ، من الأندلس ، وقرأ ببلده القراءات ،
وأتقنها على أبي عبد الله محمد بن أبي العاص النفزي .
ثم رحل إلى بَـلَنسية بالقرب من بلده ، فعرض بها التيسير من حفظه و القراءات
على الإمام ابن هذيل ، وسمع منه الحديث ، و روى عنه و عن أبي عبد الله محمد بن
أبي يوسف بن سعادة ، صاحب أبي علي الحسين بن سكرة الصدفي ؛
وعن الشيخ أبي محمد عاشر بن محمد بن عاشر ، صاحب أبي محمد البطليوسي ؛ وعن أبي
محمد عبد الله بن أبي جعفر المرسي ؛ وعن أبي العباس بن طرازميل ؛ وعن أبي الحسن
عليم بن هاني العمري ، وأبي عبد الله محمد بن حميد ، أخذ عنه « كتاب سيبويه » و
« الكامل » لابن المبرد و « أدب الكاتب » لابن قتيبة وغيرها ؛
وعن أبي عبد الله محمد بن عبد الرحيم ، وأبي الحسن ابن النعمة صاحب كتاب : «
ريّ الظمآن في تفسير القرآن » ، وعن أبي القاسم حبيش صاحب عبد الحق بن عطية ،
صاحب التفسير المشهور ، ورواه عنه .
ثم رحل للحج ؛ فسمع من أبي طاهر السلَفي بالإسكندرية وغيره . ولما دخل مصر ،
أكرمه القاضي الفاضل وعرف مقداره ، وأنزله بمدرسته التي بناها بدرب الملوخيا
داخل القاهرة ، وجعله شيخها ، وعظمه تعظيماً كثيراً ، فجلس بها للإقراء ، وقصده
الخلائق من الأقطار ، وبها أتم نظَم هذا المتن المبارك .
إلى الأعلى..
ونظم – أيضاً – قصيدته الرائية المسماة : « عقيلة أتراب القصائد ، في أسنى
المقاصد » في علم الرسم ، وقصيدة أخرى تسمى « ناظمة الزهر » في علم عدد الآي .
وقصيدة دالية خمسمائة بيت لـخَّصَ فيها « التمهيد » لابن عبد البر .
ثم إنه لما فتح الملك الناصر صلاح الدين يوسف بيت المقدس ، توجه فزاره سنة /589
هـ/ ، ثم رجع فأقام بالمدرسة الفاضلية يُقرئ حتى تُوفي .
وكان إماماً كبيراً ، أعجوبة في الذكاء ، كثير الفنون ، آية من آيات الله تعالى
، غاية في القراءات ، حافظاً للحديث ، بصيراً بالعربية ، إماماً في اللغة ،
رأساً في الأدب ، مع الزهد والولاية ، والعبادة ، والإنقطاع والكشف ، شافعي
المذهب ، مواظباً على السُّنَّة ؛
قال ابن خلكان رحمه الله تعالى : « كان إذا قُرئ عليه صحيح البخاري ومسلم
والموطأ ، تُصحح النسخ من حفظه » .
بلغنا أنه وُلد أعمى . ولقد حكى عنه أصحابه ومن كان يجتمع به عجائباً ! وعظموه
تعظيماً بالغاً ، حتى أنشده الإمام الحافظ أبو شامة الدمشقي – رحمه الله – من
نظمه في ذلك :
رَأَيْتُ جَمَاعَةً
فُضَلاَءَ فَازُوا برُؤْيَةِ شَيْخِ مِصْرَ الشَّاطِبيِّ
وَكُلُّهُمْ يُعَظِّمُهُ وَيُثْنِي كَتَعْظِيمِ الصَّحَابَةِ
للنَّبِيِّ
وذكر بعضهم : أن الشاطبي كان يُصلي الصبح بالفاضلية ، ثم يجلس للإقراء ، فكان
الناس يتسابقون إليه ، وكان إذا قعد لا يزيد على قوله : من جاء أوَّلاً فليقرأ
؛ ثم يأخذ على الأسبق فالأسبق ؛
فاتَّفق في بعض الأيام ، أن بعض أصحابه سبق أولاً ، فلما استوى الشيخ قاعداً
قال : من جاء ثانياً فليقرأ ! فشرع الثاني في القراءة ، وبقي الأول لا يدري
حاله! وأخذ يتفكر ما وقع منه بعد مفارقة الشيخ من ذنب أوجب حرمان الشيخ له ؟
ففطن أنه أجنب تلك الليلة ، و لشدة حرصه على النَّوْبة ، نسي ذلك لما انتبه ،
فبادر إلى الشيخ ، فاطَّلع الشيخ على ذلك! فأشار للثاني بالقراءة!
إلى الأعلى..
ثم إن ذلك الرجل ، بادر إلى حمام جوار المدرسة ، فاغتسل به ، ثم رجع قبل فراغ
الثاني ، و الشيخ قاعد على حاله ، و كان ضريراً ، فلما فرغ الثاني قال الشيخ :
من جاء أولاً فليقرأ! فقرأ . وهذا من أحسن ما نعلمه ، وقع لشيوخ هذه الطائفة .
وذكر العلاَّمة الشيخ علي القاري من كراماته : أنه كان يسمع الأذان من غير
المؤذن ، وكان لا يظهر منه لذكاءه وفطنته ، ما يظهر من الأعمى في حركاته!
وكان لا يتكلم إلاََّ بما تدعو الضرورة إليه .
ولا يجلس للإقراء إلاَّ على طهارة ، في هيئة حسنة وخضوع واستكانة ، ويمنع
جلساءه من الخوض إلاَّ في العلم والقرآن ؛
وكان يعتل العلة الشديدة ولا يشتكي ، ولا يتأوَّه ؛ وإذا سُئل عن حاله قال :
العافية ؛ لا يزيد على ذلك . اهـ .
وممن قرأ عليه هذا النظم المبارك ، وعرض عليه ما تضمنه من القراءات : الإمام
أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد السخاوي ، وهو أجلُّ أصحابه ؛ والإمام أبو
عبد الله محمد بن عمر القرطبي ، والسديد عيسى بن مكي ، ومرتضى بن جماعة ،
والكمال علي بن شجاع الضرير ، وهو صهره ؛ والزَّيْن محمد بن عمر الكردي ، وأبو
القاسم عبد الرحمن بن سعيد الشافعي ، وعيسى بن يوسف بن إسماعيل المقدسي ، وعلي
بن محمد بن موسى النجيبي وعبد الرحمن بن إسماعيل التونسي .
وممن سمع عليه ، وقرأ عليه بعض القراءات : الإمام أبو عمرو عثمان بن عمر بن
الحاجب ، والشيخ أبو الحسن علي بن هبة الله بن الجميزي ، وأبو بكر محمد بن
وضَّاح اللخمي ، وعبد الله بن عبد الوارث بن الأزرق ، وهو آخر أصحابه موتاً .
إلى الأعلى..
وقد بارك الله له في تصنيفه ، لا سيما هذا النظم المبارك ، فلقد رُزق من القبول
والشهرة ، ما لا نعلمه لكتاب غيره في هذا الفن ، حتى صارت جميع بلاد الإسلام لا
تخلو منه ، ولقد بالغ أكثر الناس في التغالي فيه ، وأخذ أقواله مسلَّمة ،
واعتبار ألفاظه منطوقاً ومفهوماً ، حتى خرجوا بذلك عن حدِّ أن تكون لغير معصوم
، وتجاوز بعض الحد فزعم أن ما فيها هو القراءات السبع ، وأن ما عدا ذلك لا تجوز
القراءة به!
وقد شرحه كثير من الأئمة المعتبرين ، منهم : برهان الدين إبراهيم بن عمر
الجعبري ، وشمس الدين الكوراني ، وشمس الدين الفناري ، وعلم الدين علي بن محمد
السخاوي المصري ، وأبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل النحوي ، وأبو عبد الله محمد
بن أحمد – المعروف بشعلة الموصلي – وعلاء الدين بن عثمان المعروف بابن القاصح
البغدادي ، وأبو عبد الله محمد بن الحسن بن محمد الفاسي ، وعماد الدين علي بن
يعقوب الموصلي ، وجمال الدين بن علي الحصني ، وأبو العباس أحمد بن محمد
القسطلاّني المصري ، وأبو العباس أحمد بن علي الموصلي ، وتقي الدين عبد الرحمن
بن أحمد الواسطي ، وتقي الدين يعقوب بن بدران الجرايدي ، وشهاب الدين أحمد بن
يوسف السمين الحلبي ، وشهاب الدين أحمد بن محمد بن جبارة المقدسي ، وشمس الدين
محمد بن أحمد الأندلسي ، ومحب الدين محمد بن محمود بن النجار البغدادي ، وأبو
بكر بن ايدغدي الشهير بابن الجندي ، وأبو القاسم هبة الله بن عبد الرحيم
البارزي ، ويوسف بن أبي بكر المعروف بابن الخطيب ، وعلم الدين قاسم بن أحمد
اللورقي ، وبدر الدين المعروف بابن أم قاسم المرادي ، وأبو عبد الله المغربي
النحوي ، والسيد عبد الله بن محمد الحسيني ، وجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر
السيوطي ، ونور الدين علي بن سلطان القاري ، ومنتجب الدين الهمداني ، وشهاب
الدين أحمد بن عبد الحق السنباطي ، وعلي بن محمد الضبَّاع ، له عليه شرحان : «
إرشاد المريد إلى مقصود القصيد » و « إنشاد الشريد من معاني القصيد » .
ونقل الإمام القرطبي : أن الإمام الشاطبي رحمة الله تعالى لما فرغ من تصنيفه
طاف به حول الكعبة اثنا عشر ألف أسبوع ، كلما جاء في أماكن الدعاء ، قال :
اللهم فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، رب هذا البيت العظيم ، انفع
بها كل من قرأها – يعني : هذا المتن ، باعتبار أنه قصيدة – .
وروي عنه – أيضاً – أنه رأي النبي في المنام ، فقام بين يديه وسلم عليه ، وقدم
القصيدة إليه وقال : يا سيدي يا رسول الله! انظر هذه القصيدة! فتناولها النبي
بيده المباركة وقال : « هي مباركة ، من حفظها دخل الجنة » زاد القرطبي : بل من
مات وهي في بيته دخل الجنة .
وفاته :
توفي الإمام الشاطبي – رحمه الله تعالى – يوم الأحد ، بعد صلاة العصر ، وهو
اليوم الثامن والعشرون من جمادى الآخرة ، سنة : /590 هـ/ ، ودفن يوم الأثنين
بمقبرة القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني ، بالقرافة الصغرى ، بالقرب من سفح
الجبل المقطم بمصر ، وقبره مشهور معروف ؛ رحمه الله تعالى .
إلى الأعلى.. |